امرأة مؤمنة على شفير النار
<blockquote>هي امرأة كبقية النساء تُحب الحياة
لقد آمنت بالله ، فرضيت به ربـاً ومالكاً ومُدبِّرا
ورضيت به حَكَماً وحاكماً
آمنت بالله فامتُحن إيمانها ، واختُبر صدقها
فنجحت وجاوزت الامتحان .
عُرضت على الفتنة ، وتعرّضت للبلاء الذي ربما لا تُطيقه الصمّ الصلاب
لكنها صمدت ... كصمود الجبال
ورسخت أقدامها كرسوخ الرواسي
فلما علم الله منها صدق إيمانها ثبّتها أيما تثبيت ، وربط على قلبها .
فأي امرأة تلك ؟
هي امرأة عاشت ردحاً من الزمن على الكفر والشرك .
فعمرها في الإيمان قصير .
من هي ؟
ومن تكون ؟
إنها المرأة التي قصّ علينا خبرها من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
فهاكِ القصة بطولها
قال صلى الله عليه وسلم :
قال كان ملك فيمن كان
قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فأبعث إلي غلاما
أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما يعلمه ، فكان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد
إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مـرّ بالراهب وقعد إليه ،
فإذا أتى الساحر ضربه ، فشكى ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا خشيت الساحر فقل
حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى
على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب
أفضل ؟ فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر
فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس ، فرماها فقتلها ، ومضى الناس ، فأتى
الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني ! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من
أمرك ما أرى وانك ستُبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل عليّ ، وكان الغلام يُبرئ
الأكمه والأبرص ، ويُداوى الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد
عَمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال :
إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله ، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك
، فآمن بالله فشفاه الله ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له
الملك : من ردّ عليك بصرك ؟ قال : ربي ! قال : ولك رب غيري ؟ قال : ربي
وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الغلام ، فجيء بالغلام ،
فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل
وتفعل . فقال : إني لا أشفى أحداً ، إنما يشفى الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه
حتى دلّ على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فدعا
بالمئشار ، فوُضع المئشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس
الملك فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقّه به
حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى فدفعه إلى
نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل ،
فإذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به
الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشى
إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه
إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر
، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت
، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشى إلى الملك ، فقال له الملك : ما
فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل
ما آمرك به . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على
جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : باسم الله رب
الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد
وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال :
باسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في
موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام . آمنا
برب الغلام ، فأُتيَ الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك
حذرك . قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدّت ، وأضرم
النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ، أو قيل له : اقتحم ،
ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها
الغلام : يا أمه اصبري ، فإنك على الحق . رواه مسلم .
فيا لها من امرأة
مؤمنة تقف على شفير النار ، وتُقبل عليها بحرّها ولهيبها ، وهي تعلم إلى
أين تذهب ، وعلى أي شيء تُقدِم ، ومع ذلك تتقدّم وما ردّها أنها سوف تموت
وتهلك وتحترق .
وإنما نظرت إلى من لا ذنب له ، ولا قضية له ، نظرت إلى صبيها ، فجاءها التثبيت وبادرها الصبي :
يا أمه اصبري ، فإنك على الحق .
ومن عادة الكبير قبل
الصغير أن يخاف من النار ، ويُروّعه حرّها ولظاها ، ولكن هذا الصبي شجّع
أمّـه على المضي قُدماً ، وما ذلك إلا تثبيت من الله ، لما رأى من صدق
إيمانها .
واليوم لا تُدعى المرأة المسلمة إلى نار تلظّى ، وإنما تُدعى إلى ظل وارف تتفيأ ظلاله ، إلى التمسّك بتعاليم دينها .
فمنهن من تترك الظلّ الوارف ، ويتقحّمن النار ، بطوعهن واختيارهن ، لا نتيجة إيمان بل نتيجة تمرّد وعصيان !
قال صلى الله عليه وسلم : إنما مثلي ومثل الناس ، كمثل رجل استوقد ناراً ،
فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ،
فجعل ينزعهن ويغلبنه ، فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم
تقحّمون فيها . رواه البخاري ومسلم .
فما بال أقوام يتقحّمون النار تلبية لرغباتهم واتِّباعاً لشهواتهم ، في
حين كان أقوام يتقحّمون النار ويتدافعون فيها هربا من نار الآخرة .
لقد كان أولئك القوم الذين جاء ذكرهم في سورة البروج يقتحمون في النار ، ويتسابقون إليها هربا من نار الآخرة ، وثباتاً على الإيمان .
جاء في رواية للإمام أحمد : فأمر بأفواه السكك فخُددت فيها الأخدود ،
وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه ، وإلا فأقحموه فيها .
فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون .
ولكنهم تدافعوا إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
قال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )
والقصة لا تنقضي عجائبها ، فمن ذلك :
أن ذلك الملك كان يستعين على استعباد الناس بالسِّحر والسّحرة
أنه كان يعلم أنه ليس هو ربهم !
أن زيف ذلك الملك ظهر عند أول امتحان
أنه ما سُلّط على الغلام ، ولا استطاع قتله حتى اتّبع تعليماته
عجيب ! ملك يدّعي الربوبية لا يستطيع قتل غلام واحد حتى يفعل ما يأمره به الغلام !!
كفاية الله لعبده المؤمن ، وحفظه لمن حفظه .
بقاء الحق وظهوره ما بقي له بصيص أمل ، ويتمثل ذلك في وجود راهب واحد .
عدم المساومة على قضية الإيمان ، ولو كان الثمن هو النفس والنفيس
فالراهب وجليس الملك لم يرجعا عن دينهما ولو شُق كل واحد منهما إلى شقين .
عدم رجوع الناس عن الإيمان بعد أن ذاقوا حلاوته ، ولو أدّى ذلك إلى فتنتهم وحرقهم بالنار
إلى غير ذلك من الدروس والعبر التي لا تنقضي .
والله تعالى أعلى وأعلم
</blockquote>